منوع

كيف فعلها “هتلر”: القضاء على البطالة وتشغيل 6 ملايين مواطن في 4 سنوات فقط

“إن البؤس الذي يعيشه شعبنا لهو شيء مروع للغاية. هناك الملايين من العمال الجائعين العاطلين عن العمل. وهناك إفقار للطبقة الوسطى والحرفيين. وإذا ما طال هذا التدهور المزارعين الألمان، فسوف نواجه كارثة لا يعلم أحد مداها. وساعتها لن نكون مجرد أمة انهارت، بل هذا سيكون انهيارًا لميراث يضم بعض أعظم إنجازات الحضارة والثقافة الإنسانية التي تعود إلى ألفي عام مضت”.

العبارات السابقة سمعها الشعب الألماني بصوت زعيم الرايخ “أدولف هتلر”، وكانت جزءًا من خطابه الافتتاحي الذي ألقاه على مسامعهم في الراديو بعد يومين من توليه منصبه مستشارًا لألمانيا في الثلاثين من يناير/كانون الثاني عام 1933.

تابع “هتلر في خطابه قائلًا: “في غضون أربع سنوات، سيتم القضاء على البطالة نهائيًّا … لقد كان أمام الأحزاب الماركسية (خصومه) وحلفائها 14 عامًا لكي يرونا ما يمكنهم فعله، ولكن النتيجة هي أكوام من الأنقاض. الآن، أنا أطلب من الشعب الألماني أن يعطينا أربع سنوات فقط قبل أن يحكم علينا”.

في أوائل الثلاثينيات، ازدادت شعبية الحزب النازي؛ بسبب تعهد “هتلر” بتحقيق ما لم يستطع أي حزب سياسي آخر تحقيقه: سحب ألمانيا من وحل الكساد العظيم، وأعاد الألمان إلى العمل. وفي خطابه الإذاعي الأول، قطع الرجل على نفسه عهدًا أمام الجميع بالقضاء على البطالة في 4 سنوات فقط.

حين ننظر إلى الوضع وقتها ودرجة سوء الأحول الاقتصادية، ندرك أن هذه مقامرة كبيرة من “هتلر”؛ ففي الفترة الممتدة من منتصف عام 1929 إلى يناير/كانون الثاني 1933 (لحظة توليه السلطة) تراجع عدد الألمان الذين لديهم وظائف بدوام كامل من 20 مليونًا إلى 11.5 مليون. وفي بداية عام 1933، كان هناك ما لا يقل عن 6 ملايين عاطل عن العمل. هل يستطيع “هتلر” أن يفي بوعده للألمان؟

الكفاءة أم أهل الثقة؟

في خطوة أولى بدت مفاجئة لمن حوله، تجنب “هتلر” الاعتماد في هذا الملف الحساس على أي من منافقيه أو مناصريه المتطرفين، الذين رأى أن وجهات نظرهم الاقتصادية غير عملية، ولا تناسب ما يطمح إليه، واختار بدلًا من ذلك إسناد المهمة إلى رجال يعرف أنهم يتمتعون بالقدرات المناسبة، ولو لم يكونوا من أشد مؤيديه.

على وجه التحديد، اختار هتلر الدكتور “يالمار شاخت” – وهو مصرفي بارز يمتلك تاريخًا مثيرًا للإعجاب في كل من قطاع الأعمال الخاص والخدمات العامة – وعينه رئيسًا للبنك المركزي الألماني “رايخ بنك” قبل أن يعينه لاحقًا وزيرًا للاقتصاد؛ وذلك على الرغم من أن “شاخت” لم يكن ينتمي إلى الحزب الاشتراكي.

يقول المؤرخ الأمريكي البارز “جون جراتي”: “بعد تولي هتلر السلطة، قامت حكومته على الفور بشن هجوم شامل على البطالة، وعملت على تحفيز الإنتاج الصناعي من خلال الإعانات والإعفاءات الضريبية، وشجعت الإنفاق الاستهلاكي بوسائل كثيرة؛ منها قروض الزواج. كما أطلق برنامجًا ضخمًا للأشغال العامة شمل طرقًا سريعة ومشاريع إسكان وسككًا حديدية وموانئ”.

من الأمور اللافتة للنظر في سياسة “هتلر” الاقتصادية، اعتقاده بأن النساء المتزوجات يجب ألا يعملن خارج المنزل؛ لذلك عمدت حكومته إلى تشجيع النساء العاملات على ترك وظائفهن والبقاء في منازلهن؛ ما قلل التنافس على الوظائف، وساهم في تحسين إحصاءات البطالة.

هذه البداية القوية ساعدت “هتلر” على إقناع جزء من الشعب الألماني كان متشككًا في مدى جديته في وعوده، بأن الرجل وحكومته لديهما التصميم والقدرة. وبدورها، شجعت هذه الثقة رجال الأعمال على الاستثمار وإعادة توظيف العمال المستغنى عنهم، كما شجعت المستهلكين على الإنفاق والتخطيط للمستقبل.

دون صخب أو ضجيج، ركزت حكومة “هتلر” على إعادة بناء وترميم الترسانة العسكرية للبلاد. وتحت ستار “خلق الوظائف”، قام النازيون بإعادة بناء جيشهم؛ وذلك في انتهاك واضح لمعاهدة “فرساي” التي كان يعتقد “هتلر” أنها أذلت بلاده وجردتها من كرامتها.

قبل تولي “هتلر” للسلطة كانت ألمانيا لا تمتلك أي سلاح جوي أو بحري، ولا حتى دبابات. فقط كان هناك 100 ألف جندي يفتقرون إلى أبسط مكونات التسليح والعتاد. وبعد أيام من توليه للسلطة، وتحديدًا في فبراير/شباط 1933، وضع “هتلر” برنامج إعادة التسليح نصب عينيه، واستغله في خلق مزيد من الوظائف.

قام الجيش الألماني بإعداد قائمة بالشركات التي يمكن الاستعانة بها في صناعة السلاح، ضمت 2800 شركة. وبحلول عام 1935، كان هناك 72 ألف عامل يعملون في صناعة الطائرات؛ وذلك مقارنةً بأقل من 4 آلاف عامل كانوا يعملون بالمجال نفسه في بداية عام 1933.

ما قيمة وعد “هتلر”؟

الخطط الرامية إلى القضاء على البطالة وإعادة بناء قوة ألمانيا العسكرية كانت مكلفة؛ ففي أول عامين أنفقت حكومة “هتلر” 4 مليارات مارك أثناء سعيها لحل مشكلة البطالة. وفي خطوة غير مألوفة إلى حد ما، رفض وزير الاقتصاد الألماني “شاخت” اتباع الوسائل التقليدية التي تلجأ إليها عادةً الحكومات بحثًا عن التمويل، وهي: الاقتراض الخارجي أو طباعة النقود أو زيادة الضرائب.

بدلًا من ذلك قدم “شاخت” ما أطلق عليها “سندات ميفو” التي كانت سندات مضمونة من قبل الحكومة قابلة للسداد خلال فترات تصل إلى 5 سنوات. وفي ظل ثقة الألمان بحكومتهم، أقدم أغلبهم على شراء تلك السندات؛ ما ساهم في توسع الاقتصاد من خلال زيادة العمالة والإنتاج. وبحلول عام 1939 بلغت قيمة إجمالي ما اشتراه الألمان من تلك السندات 12 مليار مارك.

كما وعد “هتلر”، انخفضت البطالة في عامه الأول بالسلطة بمقدار الثلث، قبل أن تتراجع بما يقرب من الثلثين بعد 18 شهرًا من توليه منصبه. وبحلول عام 1936، انخفض عدد العاطلين عن العمل إلى مليون شخص. وفي تحول دراماتيكي للوضع، أصبحت ألمانيا تعاني في عام 1939 من نقص في العمالة المتاحة، قدره 500 ألف عامل!! هذا الوضع أدى إلى تنافس أرباب العمل على العمالة ورفع أجورهم.

بالتوازي، تحسنت مستويات الأجور وظروف العمل بالنسبة إلى أعداد كبيرة من الألمان. ففي خلال الفترة بين عامي 1932 و1939، ارتفع إجمالي الأجور الحقيقية الأسبوعية للألمان بنسبة 21%. وفي الوقت نفسه، ظلت تكاليف الإيجار مستقرة، في حين انخفضت تكاليف الإضاءة والتدفئة.

تراجعت أسعار بعض السلع الاستهلاكية، مثل الأجهزة الكهربائية والساعات، كما انخفضت أسعار بعض الأطعمة. يقول المؤرخ البريطاني “نيال فريجسون”: “ارتفع معدل التضخم في ألمانيا بمعدل سنوي قدره 1.2% فقط خلال الفترة بين عامي 1933 و1938، فيما ارتفع الدخل السنوي للعمال الألمان بنسبة 25%”.

كان يوم العمل العادي بالنسبة لمعظم الألمان ثماني ساعات، وكان العمال يحصلون على أجور سخية مقابل عملهم ساعات إضافية. وفي الوقت نفسه، تحسنت ظروف العمل بشكل ملحوظ؛ حيث تم التشديد على أهمية إجراءات الصحة والسلامة في أماكن العمل، وتوفير وجبات ساخنة مدعومة، وملاعب رياضية، وحدائق وعروض مسرحية، وحفلات موسيقية، ودورات تعليمية، كما تم بناء أحد أنجح أنظمة الرعاية الصحية في أوروبا.

باختصار، أراد “هتلر” أن يحصل الألمان على “أعلى مستوى معيشي ممكن”؛ وذلك كما صرح هو في مقابلة مع صحفي أمريكي في أوائل عام 1934.

النخبة الحاكمة أم الشعب؟

عن أفكار هتلر ومبادئه الأساسية، كتب المؤرخ “جون جراتي”: “كان هتلر يفضل الألمان العاديين على أي فئة من نخبة المجتمع… فقد كان للعمال مكان مشرف في نظام الرايخ”. وانطلاقًا من تلك الأفكار، قدمت حكومة هتلر مزايا إضافية للعمال تشمل الإسكان المدعوم، والرحلات المخفضة التكلفة والبرامج الرياضية.

في السيرة الذاتية المفصلة والانتقادية لـ”هتلر” اعترف المؤرخ “يواخيم فيست” بأن نظام هتلر لم يكن يفضل طبقة على أخرى (كما كان الحال في بعض البلدان الأوروبية الأخرى التي كان يوجد بها نخبة حاكمة تحصل على خيرات البلاد)، بل على العكس؛ أظهر نظامه حيادية تامة تجاه كل الطبقات، ومنح الجميع فرصًا للارتقاء، ضاربًا بالتقاليد الاجتماعية القديمة المتحجرة عرض الحائط، وهو ما ساهم في تحسين الحالة المادية لكثير من الألمان.

الأرقام التالية قد تعطيك أيضًا فكرة عن كيفية تحسن نوعية الحياة بالنسبة للكثير من الألمان: في الفترة ما بين عامي 1932 (العام الأخير في حقبة ما قبل هتلر) و1938 (آخر عام قبل اندلاع الحرب) ازداد استهلاك الغذاء بأكثر من السدس، في حين ارتفع معدل دوران الملابس والأثاث المنزلي بأكثر من الربع.

ارتفع حجم السياحة بأكثر من الضعف، في حين تضاعفت نسبة ملكية وإنتاج السيارات، كما زادت صادرات السيارات الألمانية أكثر من ثمانية أضعاف، فيما ارتفع عدد المسافرين جوًّا إلى ألمانيا بأكثر من ثلاث مرات. وفي ذات الوقت، ارتفع صافي أرباح الشركات الكبرى أربع مرات.

في دراسته التفصيلية الصادرة تحت عنوان “الرايخ ذو الاثني عشر عامًا” قال المؤرخ اليهودي “ريتشارد جرونبيرجر”: “في السنوات الثلاث الممتدة بين عامي 1939 و1942، توسعت الصناعة الألمانية بما يوازي ما حققته خلال الخمسين عامًا السابقة”.

انخفض معدل الجريمة في ألمانيا خلال سنوات هتلر؛ حيث شهدت معدلات القتل والسرقة والنشل تراجعًا ملحوظًا، كما تحسنت الأوضاع الصحية للشعب الألماني بشكل أثار إعجاب كثير من الأجانب. يقول الطبيب البريطاني “أرنولد ويلسون” الذي زار ألمانيا 7 مرات بعد تولي هتلر السلطة: “لقد انخفض معدل الوفيات الرضع في ألمانيا إلى حد كبير، وأصبح أقل من نظيره لدى بريطانيا العظمى”.

يتابع “ويلسون” قائلًا: “لقد انحصر مرض السل وغيره من الأمراض بشكل ملحوظ، وتراجعت أعداد السجناء إلى مستويات غير مسبوقة. إنه لمن دواعي سروري ملاحظة الكفاءة البدنية للشباب الألماني. فحتى الأشخاص الأشد فقرًا يرتدون ملابس أفضل مما كان عليه الحال في السابق، ووجوههم المبهجة تظهر التحسن النفسي الذي حدث داخلهم”.

في غضون عام واحد من وصول هتلر للسلطة، قفز معدل المواليد الألمان بنسبة 22%، وارتفع إلى أعلى نقطة في عام 1938. وفي ذات العام، شهدت ألمانيا أعلى معدلات الزواج في أوروبا. ويرى المؤرخ “جون لوكاكس” أن هذه القفزة تعبر عن حالة التفاؤل والثقة التي تمتع بها الألمان خلال سنوات هتلر.

هناك ملمح آخر مهم في خطة هتلر الاقتصادية يجب الإشارة إليه؛ هو عدالة توزيع العبء الضريبي؛ ففي عام 1938، كان الألمان الذين يندرجون تحت أدنى الشرائح الضريبية يمثلون 49% من السكان، ويساهمون بنحو 14% من الدخل القومي، لكنهم لم يتحملوا سوى 4.7% فقط من العبء الضريبي، في حين تحملت الشريحة الأعلى دخلًا التي تضم 1% من السكان، وتستحوذ على 21% من الدخل القومي؛ نحو 45% من العبء الضريبي.

لمجرد أن من فعلها هو “هتلر”

في مقالة شهيرة نشرها في مجلة “أمريكان هيستوريكال ريفيو”، قارن بين طرق تعامل كل من الولايات المتحدة وألمانيا مع تبعات الكساد العظيم، قال المؤرخ الأمريكي “جون جراتي”: “إن الألمان كانوا أكثر نجاحًا وإبداعًا من الأمريكيين في حل مشكلاتهم النقدية والاقتصادية، ومعالجة العلل الاقتصادية التي أصابت كلا البلدين في الثلاثينيات، وهو ما مكنهم من تحفيز الإنتاج الصناعي وخفض معدلات البطالة بشكل أسرع”.

وفي الحقيقة، فإن التفوق الألماني في تلك الفترة على الأمريكيين فيما يخص الاقتصاد، مثير للدهشة والاستغراب، خصوصًا عندما يأخذ المرء في اعتباره حقيقة أن الولايات المتحدة لديها ثروة أكبر من الموارد الطبيعية، تشمل احتياطيات نفطية هائلة، وكذلك كثافة سكانية أقل، والأهم من كل ما سبق، هو أن واشنطن -على عكس برلين- لم يكن لديها عداوات أو جيران مسلحون تسليحًا جيدًا.

في أواخر عام 1936، قام رئيس وزراء بريطانيا خلال حرب العالمية الأولى “ديفيد جورج”، بجولة واسعة في ألمانيا. وفي مقال نُشر بعد ذلك في إحدى أشهر الصحف اللندنية، روى رجل الدولة البريطاني ما رآه وشهده قائلًا: “أيًّا ما كنت تعتقد في أساليب هتلر، لا يمكنك إنكار حقيقة التحول الذي حققه في روح هذا الشعب”.

يتابع “جورج”: “لقد صدق هتلر حين ادعى أثناء خطبته التي ألقاها في نورمبرج أنه نجح خلال 4 سنوات في جعل ألمانيا جديدة. هذه ليست ألمانيا التي خرجت من الحرب العالمية الأولى مكسورة وعاجزة ومهزومة نفسيًّا يتخطفها شعور بالعجز والخوف. الألمان سيقاتلون ويضحون بأرواحهم إذا طلب منهم هتلر ذلك. وأولئك الذين لا يفهمون تلك الحقيقة لا يمكنهم الحكم على إمكانات ألمانيا الحديثة”.

“جون كينيث جالبرايث” الاقتصادي الكندي الشهير الذي يعد من أبرز مؤيدي الليبرالية الأمريكية، والذي عمل مستشارًا لعدد من الرؤساء الأمريكيين، ودرس الاقتصاد في جامعة هارفارد، كتب حول تجربة هتلر الاقتصادية الآتي: “إن نجاح ألمانيا في القضاء على البطالة أثناء الكساد العظيم، دون الوقوع في فخ التضخم؛ يعد إنجازًا بارزًا نادرًا مما تتم الإشادة به أو الإشارة إليه”.

تابع “جالبرايث” قائلًا: “إن الليبراليين الأمريكيين والاشتراكيين البريطانيين، قاموا بالتركيز على الأنشطة القمعية لهتلر ومعسكرات الاعتقال وصراخه في خطاباته، وقرروا تجاهل الاقتصاد؛ لأنهم آمنوا بأنه لا يمكن أن يأتي أي خير من جانب هتلر، ولا حتى التوظيف الكامل للعمالة”.

باختصار، رغم كل شيء، لا يمكن لمنصف إنكار حقيقة أن “هتلر” حقق لألمانيا وشعبها إنجازات اقتصادية عجزت وتعجز عن مثلها حكومات سابقة وحالية في كثير من بلدان العالم الأول قبل الثالث، غير أن هذه الإنجازات غالبًا ما يتم تجاهلها والتشكيك في حقيقتها لمجرد أن من قام بها هو “هتلر”. ستة ملايين مواطن وجدوا وظائف لهم في غضون 4 سنوات فقط. هناك اليوم حكومات تغرق في شبر ماء، ولا تستطيع حتى أن توقف تدهور معدل البطالة، لا أن تقضي عليها، رغم أن لديها ظروفًا أفضل وموارد أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock